فصل: تفسير الآية رقم (44):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: لباب التأويل في معاني التنزيل المشهور بـ «تفسير الخازن» (نسخة منقحة).



.تفسير الآية رقم (43):

{وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (43)}
قوله تعالى: {وكيف يحكمونك وعندهم التوراة} هذا تعجيب من الله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم في تحكيم اليهود إياه مع علمهم بما في التوراة تركهم قبول ذلك الحكم مع اعتقادهم صحته وعدولهم إلى حكم من يجحدون نبوته طلباً للرخصة لا جرم إن الله تعالى أظهر جهلهم وعنادهم لأنهم حكموا النبى صلى الله عليه وسلم في أمر الزانيين ثم أعرضوا عن حكمه في الآية لتقريع اليهود والمعنى وكيف يجعلونك حكماً بينهم ويرضون بحكمك وعندهم التوراة {فيها حكم الله} يعني الرجم الذي تحاكموا إليك من أجله {ثم يتولون من بعد ذلك} يعني ثم يعرضون عن حكمك الموافق لما في كتابهم {وما أولئك} يعني اليهود {بالمؤمنين} يعني بكتابهم كما يزعمون. وقيل: معناه وما أولئك بالمصدقين.

.تفسير الآية رقم (44):

{إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآَيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (44)}
قوله عز وجل: {إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور} سبب نزول هذه الآية استفتاء اليهود رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمر الزانيين وقد سبق بيانه والهدى هو البيان لأن التوراة مبينة صحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ومبينة ما تحاكموا فيه والنور هو الكاشف للشبهات الموضح للمشكلات والتوراة كذلك. وقيل: الفرق بين الهدى والنور أن الهدى محمول على بيان الأحكام والشرائع والنور محمول على بيان أحكام التوحيد والنبوات والمعاد {يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا} أراد بالنبيين الذين بعثوا بعد موسى عليه السلام وذلك أن الله بعث في بني إسرائيل ألوفاً من الأنبياء وليس معهم كتاب إنما بعثوا بإقامة التوراة وأحكامها ومعنى أسلموا: أي انقادوا لأمر الله تعالى والعمل بكتابه وهذا على سبيل المدح لهم وفيه تعريض باليهود لأنهم بعدوا عن الإسلام الذي هو دين الأنبياء عليهم السلام وقال الحسن والزهري وعكرمة وقتادة والسدي: يحتمل أن يكون المراد بالنبيين الذين أسلموا هو محمد صلى الله عليه وسلم وإنما ذكره بلفظ الجمع تعظيماً وتشريفاً له صلى الله عليه وسلم حكم على اليهود بالرجم وكان هذا الحكم في التوراة. قال ابن الأنباري هذا رد على اليهود والنصارى لأن الأنبياء عليهم السلام ما كانوا موصوفين باليهودية والنصرانية بل كانوا مسلمين لله تعالى منقادين لأمره ونهيه. للذين هادوا يعني لليهود يعني يحكم بالتوراة لهم وفيما بينهم ويحملهم على أحكامها كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم من حملهم على حكم الرجم كما هو في التوراة ولم يوافقهم على ما أرادوه من الجلد وقال الزجاج وجائز أن يكون المعنى على التقديم والتأخير على معنى: إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور للذين هادوا يحكم بها النبيون الذين أسلموا {والربانيون والأحبار} أما الربانيون فتقدم تفسيره في سورة آل عمران وأما الأحبار فقال ابن عباس: هم الفقهاء. وقيل: هم العلماء الأحبار واحده حبر بفتح الحاء وكسرها لغتان. وقال الفراء: إنما هو حبر بكسر الحاء وإنما سمي به لمكان الحبر الذي يكتب به وذلك لأنه صاحب كتاب. وقال أبو عبيد: إنما هو حَبر بفتح الحاء والحبر العالم لما يبقى من أثر علومه في قلوب الناس وأفعاله الحسنة التي يقتدى بها وجمعه أحبار ومنه كعب الأحبار. وقيل: الحبر الأثر المستحسن ومنه الحديث: يخرج من النار رجل قد ذهب حبره وسبره أي جماله وبهاؤه. وإنما سمي العالم حبراً لما عليه من أثر جمال العلم وهل فرق بين الربانيين والأحبار أم لا؟ فيه خلاف، فقيل: لا فرق. والربانيون، والأحبار بمعنى واحد وهم: العلماء والفقهاء. وقيل: الربانيون أعلى درجة من الأحبار لأن الله تعالى قدمهم في الذكر على الأحبار.
وقيل: الربانيون هم الولاة. والحكام والأحبار هم العلماء: وقيل: الربانيون علماء النصارى، والأحبار: علماء اليهود. ومعنى الآية: يحكم بأحكام التوراة النبيون وكذلك يحكم بها الربانيون والأحبار. وقوله تعالى: {بما استحفظوا من كتاب الله} يعني بما استودعوا من كتاب الله. وقيل: هو أن يحفظوا كتاب الله فلا ينسوه وقيل هو أن يحفظوه فلا يضيعوا أحكامه وشرائعه. وقد أخذ الله على العلماء حفظ كتابه من هذين الوجهين معاً وذلك بأن يحفظوا كتاب الله في صدورهم ويدرسونه بألسنتهم لئلا يسنوه وأن لا يضيعوا أحكامه ولا يهملوا شرائعه فإذا فعلوا كانوا قائمين بحفظه {وكانوا عليه شهداء} يعني: أن هؤلاء النبيين والربانيين والأحبار كانوا شهداء على كتاب الله ويعلمون أنه حق وصدق وأنه من عند الله {فلا تخشوا الناس واخشون} هذا خطاب لحكام اليهود الذين كانوا في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعني لا تخافوا أحداً من الناس في إظهار صفة محمد صلى الله عليه وسلم والعمل بالرجم واخشون يعني في كتمان ذلك {ولا تشتروا بآياتى ثمناً قليلاً} يعني ولا تستبدلوا بآيات الله وأحكامه ثمناً قليلاً يعني الرشوة في الأحكام والجاه عند الناس ورضاهم والمعنى كما نهيتكم عن تغير الأحكام لأجل خوف الناس كذلك أنهاكم عن التغيير والتبديل لأجل الطمع في المال والجاه وأخذ الرشوة فإن كل متاع الدنيا قليل {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون} بمعنى: أن اليهود لما أنكروا حكم الله تعالى المنصوص عليه في التوراة وقالوا إنه غير واجب عليهم، فهم كافرون على الإطلاق بموسى والتوراة وبمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن واختلف العلماء فيمن نزلت هذه الآيات الثلاث وهي قوله: {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون} {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون} {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون} فقال جماعة من المفسرين: الآيات الثلاث نزلت في الكفار ومن غير حكم الله من اليهود، لأن المسلم وإن ارتكب كبيرة، لا يقال إنه كافر وهذا قول ابن عباس وقتادة والضحاك. ويدل على صحة هذا القول ما روي عن البراء بن عازب قال أنزل الله تبارك وتعالى: {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون} {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون} {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون} في الكفار كلها أخرجه مسلم، وعن ابن عباس قال: {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون} إلى قوله: {هم الفاسقون} هذه الآيات الثلاث في اليهود خاصة قريظة والنضير أخرجه أبو داود. وقال مجاهد: في هذه الآيات الثلاث من ترك الحكم بما أنزل الله رداً لكتاب الله فهو كافر ظالم فاسق.
وقال عكرمة ومن لم يحكم بما أنزل الله جاحداً به فقد كفر ومن أقر به ولم يحكم به فهو ظالم فاسق وهذا قول ابن عباس أيضاً واختار الزجاج لأنه قال: من زعم أنّ حكماً من أحكام الله تعالى التي أتانا بها الأنبياء باطل فهو كافر. وقال طاوس: قلت لابن عباس أكافر من لم يحكم بما أنزل الله؟ فقال: به كفر وليس بكفر ينقل عن الملة كمن كفر بالله وملائكته ورسله واليوم الآخر ونحو هذا روي عن عطاء. وقال: هو كفر دون الكفر. وقال ابن مسعود والحسن والنخعي: هذه الآيات الثلاث عامة في اليهود وفي هذه الأمة فكل من ارتشى وبدل الحكم فحكم بغير حكم الله فقد كفر وظلم وفسق وإليه ذهب السدي لأنه ظاهر الخطاب. وقيل: هذا فيمن علم نص حكم الله ثم رده عياناً عمداً وحكم بغيره وأما من خفي عليه النص أو أخطأ في التأويل فلا يدخل في هذا الوعيد والله أعلم بمراده.

.تفسير الآية رقم (45):

{وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (45)}
قوله تعالى: {وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس} يعني: وفرضنا على بني اسرائيل في التوراة أن نفس القاتل بنفس المقتول وفاقاً فيقتل به وذلك أن الله تعالى حكم في التوراة أن على الزاني المحصن الرجم وأخبر أن اليهود بدّلوه وغيروه وأخبر أيضاً أن في التوراة أن النفس بالنفس وأن هؤلاء اليهود غيروا هذا الحكم وبدلوه ففضلوا بني النضير على بني قريظة فكان بنو النضير إذا قتلوا من بني قريظة أدوا إليهم نصف الدية وإذا قتل بنو قريظة من بني النضير أدوا إليهم الدية كاملة فغيروا حكم الله الذي أنزل في التوراة.
قاب ابن عباس: أخبر الله بحكمه في التوراة وهو أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص. قال: فما لهم يخالفون فيقتلون النفسين بالنفس ويفقأون العينين بالعين. ومعنى الآية: أن قاتل النفس يقتل بها إذا تكافأ الدمان ومذهب الشافعي: أنه لا يقتل مسلم بكافر لما صح من حديث علي بن أبي طالب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يقتل مسلم بكافر» الحديث أخرجاه في الصحيحين وقوله تعالى: {والعين بالعين} يعني تفقأ بها {والأنف بألأنف} يعني يجدع به {والأذن بالأذن} يعني تقطع بها {والسن بالسن} يعني تقلع بها وأما سائر الأطراف والأعضاء فيجري فيها القصاص كذلك، وقوله تعالى: {والجروح قصاص} يعني فيما يمكن أن يقتص منه وهذا تعميم بعد التخصيص، لأن الله تعالى ذكر النفس والعين والأنف والأذن فخص هذه الأربعة بالذكر ثم قال تعالى: {والجروح قصاص} على سبيل العموم فيما يمكن أن يقتص منه كاليد والرجل والذكر والانثيين وغيرها وأما مالا يمكن القصاص فيه كرضّ في لحم أو كسر في عظم أو جراحة في بطن يخاف منها التلف فلا قصاص في ذلك وفيه الأرش والحكومة. واعلم أن هذه الآية دالة على أن هذا الحكم كان شرعاً في التوراة فمن قال شرع من قبلنا يلزمنا إلا ما نسخ منه بالتفصيل قال هذه الآية حجة في شرعنا ومن أنكره قال إنها ليست بحجة علينا وأصل هذه المسألة أن النبي صلى الله عليه وسلم وأمته بعد البعثة هل هم متعبد ون بشرع من تقدم من الأنبياء عليهم السلام؟ فنقل عن أصحاب أبي حنيفة وبعض أصحاب الشافعي وعن أحمد في أحد الروايتين عنه أنه كان متعبد اً بما صح من شرائع من قبله بطريق الوحي إليه لا من جهة كتبهم المبدلة ونقل أربابها واختار ابن الحاجب من المتأخرين هذا المذهب وهو أنه صلى الله عليه وسلم كان بعد البعثة متعبد اً بشرع من قبله فيما لم ينسخ من الأحكام الباقية قبل شريعته لكنه لم يعتبر فيه قيد الوحي وهو الحق وإلا لم يبق للنزاع معنى إذ لا ينكر أحدا كون النبي صلى الله عليه وسلم متعبد اً بعد البعثة بما أوحى إليه سواء كان من شريعة من قبله أم لا وذهبت الأشاعرة والمعتزلة إلى المنع من ذلك وهو اختيار الآمدي من المتأخرين واحتج الأولون لصحة مذهبهم بأن الإجماع منعقد على صحة الاستدلال بقوله: {وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس} الآية مع أنه من شريعة من تقدم لأنه مذكور في التوراة.
ومكتوب على بني إسرائيل: ولولا أنا متعبد ون بشريعة من قبلنا لما صح هذا الاستدلال، وقوله تعالى: {فمن تصدق به} يعني بالقصاص فلم يقتص من الجاني {فهو كفارة له} في هاء له قولان: أحدهما أن الهاء في له كناية عن المجروح وولي المقتول وذلك أن المجروح أو ولي المقتول إذا تصدق بالقصاص كان ذلك كفارة لذنوبه وهذا قول ابن مسعود وعبد الله بن عمرو بن العاص والحسن ويدل عليه ما روي عن أبي الدرداء قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما من رجل يصاب بشيء من جسده فيتصدق به إلا رفعه الله به درجة وحط عنه به خطيئة» أخرجه الترمذي. وعن أنس قال: «ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم رفع إليه شيء فيه قصاص إلا أمر فيه بالعفو أخرجه أبو داود والنسائي».
والقول الثاني: أن الضمير في قوله له يعود إلى الجارح والقاتل يعني أن المجني عليه إذا عفا عن الجاني كان ذلك العفو كفارة لذنب الجاني لا يؤاخذ به في الآخرة وهذا قول ابن عباس ومجاهد ومقاتل كما أن القصاص كفارة له فأما أجر العافي، فعلى الله تعالى.
وقوله تعالى: {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون}: يعني لأنفسهم حيث لم يحكموا بما أنزل الله عز وجل.

.تفسير الآيات (46- 48):

{وَقَفَّيْنَا عَلَى آَثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآَتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (46) وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (47) وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آَتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (48)}
قوله عز وجل: {وقفينا على آثارهم} يعني وعقبنا على آثار النبيين الذين أسلموا {بعيسى ابن مريم مصدقاً لما بين يديه من التوراة} يعني أن عيسى عليه السلام كان مصدقا بأن التوراة منزلة من عند الله عزّ وجل وكان العمل بها واجباً قبل ورود النسخ عليها فإن عيسى عليه السلام نسخ بعض أحكام التوراة وخالفها {وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونور} يعني فيه هدى من الجهالة وضياء من عمى البصيرة {ومصدقاً لما بين يديه من التوراة} هذا ليس بتكرار للأول لأن في الأول الإخبار بأن عيسى مصدق لما بين يديه من التوراة. وفي الثاني: الإخبار بأن الإنجيل مصدق للتوراة، فظهر الفرق بين اللفظين وأنه ليس بتكرار {وهدى وموعظة للمتقين} إنما قال: وهدى مرة أخرى لأن الإنجيل يتضمن البشارة بمحمد صلى الله عليه وسلم فيكون سبباً لاهتداء الناس إلى نبوة محمد صلى الله عليه وسلم. وأما كون الإنجيل موعظة، فلما فيه من المواعظ البليغة والزواجر والأمثال وإنما خص المتقين بالذكر لأنهم هم الذين ينتفعون بالمواعظ.
قوله تعالى: {وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه} قال أهل المعاني: قوله وليحكم يحتمل وجهين: أحدهما أن يكون المعنى وقلنا ليحكم أهل الإنجيل، فيكون هذا إخباراً عما فرض عليهم في وقت إنزاله عليهم من الحكم بما تضمنه الإنجيل ثم حذف القول لأن ما قبله من قوله وكتبنا وقفينا يدل عليه وحذف القول كثير.
والوجه الثاني: أن يكون قوله وليحكم ابتداء وفيه أمر للنصارى بالحكم بما في كتابهم وهو الإنجيل.
فإن قلت فعلى هذا الوجه كيف جاز أن يؤمروا بالحكم بما في الإنجيل بعد نزول القرآن قلت: إن المراد بهذا الحكم الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم لأن ذكره في الإنجيل ووجوب التصديق بنبوته موجود فإذا آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم فقد حكموا بما في الإنجيل.
وقوله: {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون} يعني: فأولئك هم الخارجون عن طاعة الله عز وجل.
قوله عز وجل: {وأنزلنا إليك الكتاب} الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم يعني وأنزلنا إليك يا محمد القرآن {بالحق} يعني بالصدق الذي لا شك فيه أنه من عند الله {مصدقاً لما بين يديه من الكتاب} يعني أن يصدق جميع الكتب التي أنزلها الله على أنبيائه {ومهيمناً عليه} قال ابن عباس يعني شاهداً على الكتب التي قبله ومنه قول حسان:
إن الكتاب مهيمن لنبينا ** والحق يعرفه ذوو الألباب

يريد أنه شاهد ومصدق لنبينا صلى الله عليه وسلم وإنما كان القرآن مهيمناً على الكتب التي قبله لأنه الكتاب الذي لا ينسخ ولا يغير ولا يبدل. وإذا كان القرآن كانت شهادته على التوراة والإنجيل والزبور وجميع الكتب المنزلة حقا وصدقاً.
وقيل: المهيمن الأمين. وإنما كان القرآن أميناً على الكتب التي قبله فيما أخبر أهل الكتب عن كتبهم فإن قالوا ذلك في القرآن فقد صدقوا وإلا فلا {فاحكم بينهم بما أنزل الله} يعني: إذا ترافع أهل الكتاب إليك يا محمد فاحكم بينهم بالقرآن الذي أنزل الله إليك {ولا تتبع أهواءهم} يعني: ولا تبع أهواء هؤلاء اليهود في الحكم وقال ابن عباس لا تأخذ بأهوائهم في جلد المحصن {عما جاءك من الحق} يعني ولا تنحرف عن الحق الذي جاءك من عند الله متبعاً أهواءهم، وقوله: {ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق} وإن كان خطاباً للنبي صلى الله عليه وسلم لكن المراد به غير لأنه صلى الله عليه وسلم لم يتبع أهواءهم قط.
وقوله تعالى: {لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً} الخطاب في قوله منكم للأمم الثلاثة أمة موسى وأمة عيسى وأمة محمد صلى الله عليه وسلم وعليهم أجمعين بدليل أن الله عز وجل قال قبل هذه {إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور} ثم قال بعد ذلك {وقفينا على آثارهم بعيسى ابن مريم} ثم قال {وأنزلنا إليك الكتاب} ثم جمع فقال {لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً} والشرعة: الشريعة. يعني لكل أمة شريعة فللتوراة شريعة وللإنجيل شريعة وللقرآن شريعة والدين واحد وهو التوحيد. وأصل الشريعة من الشرع وهو البيان والإظهار فمعنى شرع بيَّن وأوضح. وقيل: هو من الشروع في الشيء. والشريعة في كلام العرب، المشرعة التي يشرعها الناس فيشربون ويسقون منها. وقيل: الشريعة الطريقة ثم استعير ذلك للطريقة الإلهية المؤدية إلى الدين والمنهاج الطريق الواضح وقال بعضهم الشريعة والمنهاج عبارتان عن معنى واحد والتكرير للتأكيد والمراد بهما: الدين وقال آخرون: بينهما فرق لطيف وهو أن الشريعة هي التي أمر الله بها عباده. والمنهاج: الطريق الواضح المؤدي إلى الشريعة.
قال ابن عباس: في قوله شرعة ومنهاجاً سنة وسبيلاً. وقال قتادة: سبيلاً وسنة فالسنن مختلفة للتوراة شريعة وللإنجيل شريعة وللقرآن شريعة يحل الله عز وجل فيها ما يشاء ويحرم ما يشاء ليعلم من يطيعه ممن يعصيه والدين الذي لا يقبل غيره هو التوحيد والإخلاص لله الذي جاءت به جميع الرسل عليهم السلام وقال علي بن أبي: الإيمان منذ بعث آدم عليه السلام شهادة أن لا إله إلا الله والإقرار بما جاء من عند الله ولكل قوم شريعة ومنهاج. قال العلماء: وردت آيات دالة على عدم التباين في طريقة الأنبياء والرسل منها قوله: {أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده} ووردت آيات دالة على حصول التباين بينهم منها هذه الآية وهي قوله: {لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً} وطريق الجمع بين هذه الآيات أن كل آية دلت على عدم التباين فهي دالة على أصول الدين من الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وكل ذلك جاءت به الرسل من عند الله ولم يختلفوا فيه.
وأما الآيات الدالة على حصول التباين بينهم، فمحمولة على الفروع، وما يتعلق بظواهر العبادات فجائز أن يتعبد الله عباده في كل وقت بما يشاء فهذه طريق الجمع بين هذه الآيات والله أعلم بأسرار كتابه واحتج بهذه من قال إن شرع من قبلنا لا يلزمنا لأن قوله لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً يدل على أن كل رسول جاء بشريعة خاصة فلا يلزم أمة رسول الاقتداء بشريعة رسول آخر ثم قال تعالى: {ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة} يعني جماعة متفقة على شريعة واحدة ودين واحد لا اختلاف فيه {ولكن ليبلوكم} يعني ولكن أراد أن يختبركم {فيما آتاكم} يعني من الشرائع المختلفة هل تعلمون بها أم لا؟ فيتبين بذلك المطيع من العاصي والموافق من المخالف {فاستبقوا الخيرات} هذا خطاب لأمة محمد صلى الله عليه وسلم يعني فبادروا يا أمة محمد بالأعمال الصالحات التي تقربكم إلى الله تعالى {إلى الله مرجعكم جميعاً} يعني المطيع والعاصي والموافق والمخالف {فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون} يعني: فيخبركم في الآخرة بما كنتم فيه تختلفون من أمر الدين والدنيا. والمعنى: فيخبركم في الآخرة بما لا تشكون معه فيفصل بين المحق والمبطل والطائع والعاصي بالثواب والعقاب.